بقلم الشيخ: سعد فضل
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عباده الذين اصطفى، وبعد..
يقول الله عز وجل: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)﴾ (يونس)، ويقول المعصوم صلى الله عليه وسلم: "يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا نحن أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب" (صحيح).
أحبتي في الله..
من شأن يوم العيد أن يكون يوم فرح ويوم سرور وابتهاج؛ بل قالوا: إنما سمِّي العيد عيدًا؛ لأن السرور يعود فيه ويتكرر.
ولكننا للأسف نحن المسلمين تأتي علينا الأعياد عيدًا بعد عيد، نحاول أن نفرح، نحاول أن نبتهج، نحاول أن نبتسم ابتسامةً تخرج من أعماق قلوبنا، ولكننا إذا نظرنا إلى حال المسلمين تقطَّعت أكبادنا حسرةً على ما وصل إليه حالنا؛ نحاول أن نفرح وكيف نفرح وهذا حالنا؟! قديمًا قال أبو الطيب المتنبي:
عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ؟ بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ؟
أمّا الأحِبّةُ فالبَيْداءُ دونَهُمُ فَلَيتَ دونَكَ بِيدًا دونَهَا بِيدُ
همُّ المتنبي في هذا العيد جعلَه لا يفرح به؛ بعد الأحبة عنه, ولو كان همنا وقضيتنا بعد الأحبة لهان الأمر أما همومنا فهي أعظم وأخطر.
العيد الحقيقي الذي ننتظره
إن العيد الحقيقي الذي ننتظره والذي ينبغي أن تبتسم له الشفاه، وأن تفرح له القلوب، وأن تنشرح به الصدور، وأن تعلن به الأمة الفرحة الكبرى؛ هو العيد الذي ينتصر فيه المسلمون انتصارًا حقيقيًّا.. حين تعلو كلمة الإيمان.. حين ترتفع راية القرآن.. حين تحكم شريعة الإسلام.. حينما تتحرر أرض الإسلام.. حينما يصبح المسلمون سادةَ أنفسهم.. حينما يصبح أمرهم بأيديهم؛ يكون العيد الذي ننتظره، هو العيد الذي يصبح المسلمون فيه أحرارًا، هم الذين يُملون القرار، وهم الذين يتخذونه من عند أنفسهم، حين يكون المسلمون قادرين على الدفاع عن حرماتهم على الذَّود عن حماهم، لا يُهتك لهم عرض، لا تُنتهك لهم حرمات، لا تُسفك لهم دماء، لا يُهدم لهم مسجد، لا يُدمَّر منزل، حينما يأتي هذا اليوم يحق لنا أن نقول: عيدكم مبارك، وكل عام وأنتم بخير.
أما أعيادنا اليوم فليست أعيادًا.. إنها أعياد لا طعم لها ولا معنى لها.. كيف نعيِّد؟ كيف نفرح؟ كيف نضحك؟ كيف يمتلك التلفزيون تلك البرامج المفرحة, النافعة وغير النافعة منها, وإخواننا المسلمون هنا وهناك يذبَّحون.. يقتَّلون.. يجوَّعون.. يحاصرون.. يبادون.. يشرَّدون..؟!
قولوا بالله كيف نفرح ولنا إخوة في كل مكان يشكون الاضطهاد, ويشكون مرارة الأذى؟ كيف نفرح بالعيد وهذه حالنا؟
إننا نشكو مآسي حلَّت بالأمة فأخَّرت مسيرتها, ومزَّقت صفوفها, وأصبح أعداؤها يتحكَّمون فيها ولا تستطيع أن ترد لهم أمرًا.. مآسي وأحزانًا وهمومًا تصبحنا وتماسينا, تراوحنا وتغادينا, نشرات الأخبار معظمها مآسٍ عن المسلمين، لا نستطيع أن نغلق أعيننا، ولا نستطيع أن نصمَّ أسماعنا أمام هذا الصراخ, لا يستطيع الإنسان أمام هذه المشاهد أن يغلق بصره وسمعه.
المسلمون في كل مكان يُضطهدون لماذا؟ ألئن المسلمين قله في العدد؟ لا والله, لقد اقتربوا من المليار ونصف المليار, ولكن ما قيمة أعداد هي كثيرة كغثاء السيل كما سماها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد وأبو داوود عن ثوبان رضي الله عنه: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قال قائل: يا رسول الله ومن قله يومئذ؟ قال: لا بل أنتم كثير, ولكن غثاء كثاء السيل, ولينزعن الله من صدور عدوِّكم المهابة منكم ولتعرفن، وفي رواية أبي داود: وليقذفن الله في قلوبكم الوهن قال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: "حب الدنبا وكراهية الموت"
الأمة في هذه المرحلة غثاء كغثاء السيل، ولذلك طمع فيها من لا يدفع عن نفسه, تجرَّأ عليها الجبان, تعزَّز عليها الذليل.
خير أمة إلى أين؟
الأمة التي كانت في مطلع القافلة, قرونًا طويلةً, والتي أقامت حضارةً ربانيةً إنسانيةً أخلاقيةً عالميةً.. حضارةً متوازنةً؛ كانت الحضارة الإسلامية هي الحضارة الوحيدة في العالم.
بلغنا من القوة في وقت من الأوقات أن سمع عمر بن عبد العزيز بأسير مسلم أُهين في بلاد الروم, فكتب إلى ملك الروم: أما بعد: "فقد بلغني أنك أهنت مسلمًا كتب الله له الكرامة والعزة, فإذا بلغك كتابي هذا فخلِّ سبيله, وإلا غزوتك بجنود أولها عندك وآخرها عندي, ولم يسع هذا الملك إلا أن يطلق سراح الأسير المسلم".
والتاريخ يشهد
والناظر في التاريخ الإسلامي في النصر والهزيمة، في المد والجزر، في القوة والضعف؛ يجد أننا ننتصر ونقوَى ونعتزّ ونسود ويعمّنا الرخاء والازدهار حين نقترب من الإسلام، ونضعف ونذِلّ ونُهزَم ونصبح مضغةً في أفواه الأمم يوم نبتعد عن الإسلام!.
انظر أيام الراشدين.. انظر أيام عمر بن عبد العزيز.. انظر أيام الرشيد والمأمون.. أنظر أيام نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي, كلما وجدت اقترابًا من الإسلام الحقيقي, وجدت القوة والنهضة والازدهار والعزة والنصر.
حتى إذا تركنا الإسلام تركنا الله عز وجل، ووكلنا إلى أنفسنا, وإذا وكل الله امرءًا إلى نفسه فهيهات أن يتحقق له نصر أو يتحقق له سيادة!.
إذا أردنا حل مشكلاتنا, فلا حلَّ لها إلا بالعودة إلى الإسلام.. كل الإسلام.. الإسلام الشامل.
نريد الإنسان المؤمن
إن حل مشكلاتنا إنما هو في بناء الإنسان المؤمن؛ فهو المفتاح الذي به يُفتَح كل مغلق, وبه يُعالَج كل داء, وبه تنحلّ كل مشكلة.
هيهات أن يجد الناس حلاًّ لما يعانون؛ ما دام أولئك الذين نراهم في كل مكان عن يمين وشمال, من موتى الضمائر الذين لا يبالون ما أكلوا من حلال كان أم من حرام؛ الذين لا يبالون أن يبنوا قصورًا ولو من جماجم البشر, وأن يزخرفوها بدماء خلق الله.. هؤلاء لا تصلح بهم دنيا, ولا ينهض بهم دين!!.
هؤلاء الذين يتاجرون في السموم.. في الأعضاء البشرية.. في المخدرات؛ من أجل أن يكتسبوا أموالاً ولو على حساب إخوانهم وأهليهم وجيرانهم، يريد كلٌّ منهم امتلاك ثروة طائلة ولو قتَل الألوف والملايين من الناس.. تجار المخدّرات.. تجار الأغذية الفاسدة.. تجار الجنس.. تجار العملة.. تجار السوق السوداء.. الذين يقبلون الرشوة.. الذين يفسدون الحياة.. كل هؤلاء إنما حدث منهم ما حدث لفقدان الإيمان والشعور برقابة الله تعالى.
نريد الإنسان الذي يشعر برقابة الله عليه قبل رقابة الناس؛ الذي يقول ما قالته تلك الفتاة الصغيرة: إذا كان أمير المؤمنين لا يرانا؛ فإن رب أمير المؤمنين يرانا.
عيدنا وعيدهم
إن يوم العيد يوم فرحة وسرور, وكان بودِّنا أن نفرح بعيدنا، ولكنَّ آلام المسلمين تُدمي القلب, ولا تجعل الفرحة تغمر أفئدتنا كما ينبغي.
فإذا لبست أخي الحبيب الجديد في يوم العيد, وأكلت اللحم والثريد, فبالله عليك لا تنس إخوانك الذين لا يجدون ما يقيم الصلب, وما يسد الجوع, وإن أرَقْتَ الدماء في صحن دارك, فدماء إخوانك قد أُريقت ولا مجيب!.
العيد في فلسطين (في غزة).. في الشيشان.. في العراق.. في الصومال.. في أفغانستان.. في كشمير.. عيد مختلف من نوع خاص؛ فالمكان ليس في دار فسيحة, بل تحت الأنقاض, أو فوق بقايا البيوت, والطعام ليس من الضأن أو المعز, إنما لقيمات يلتقطونها من بين الركام, والأصوات ليست من التهاني والبشريات, بل من دوي القنابل والدبابات والجرافات؛ هل عرفت الفرق بين عيدنا وعيدهم؟!
الفرحة الكبرى بالعيد
الفرحة الكبرى بالعيد تكون يوم تعلو كلمة الإسلام في دنيا الناس.. يوم تحكم شريعة الله دنيا الخلق.. يوم تكون كلمة الله هي العليا وكلمة أعدائه هي السفلى ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)﴾ (الروم).
وقبل ذلك ستظل الأعياد باهتةً لا معنى لها؛ لأن الأمة لم تعد لها هويتها الحقيقية.
الاستبشار بمستقبل الإسلام
إننا نستبشر بمستقبل الإسلام؛ لأننا نعتقد أن بعد الليل فجرًا, وأن مع العسر يسرًا, وأن هذا الإسلام سينتصر, وأن الله يقول: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)﴾ (التوبة: 33).
فاللهم مكِّن لدينك في الأرض أن يسود، ولكتابك أن يحكم.. اللهم انصر المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها.. واحفظ بلاد المسلمين من كل مكروه وسوء يا رب العلمين.. وصلَّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
----------
* من علماء الأزهر الشريف.
الأربعاء، 10 ديسمبر 2008
عيد.. ولا فرحة من الأعماق!
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)