بقلم: عبد الباري عطوان
لم نفاجأ بانسحاب السيد رجب طيب أردوغان رئيس وزراء تركيا من ندوةٍ عُقدت في إطار فعاليات منتدى دافوس الاقتصادي بسبب عدم السماح له بالرد على مغالطات شمعون بيريس رئيس الكيان الصهيوني حول عدوانه الأخير على قطاع غزة، ولكننا فوجئنا ببقاء السيد عمرو موسى الأمين العام للجامعة العربية على المنصة نفسها التي يجلس عليها بيريس، ودون أن يبادر إلى التصدي له وفضح أكاذيبه.
السيد أردوغان لم يتحمَّل مرور سموم بيريس دون ردٍّ مُفحِمٍ، خاصةً أنه دافع عن عدوانٍ أدى إلى استشهاد أكثر من 1350 شخصًا؛ ثلثهم من الأطفال والنساء، وادَّعى أن الكيان الصهيوني حريص على السلام، وحمَّل حركة حماس وفصائل المقاومة الأخرى مسئولية ما حدث، ولكن المشرف على إدارة الندوة رفض إعطاءه الكلمة تحت ذريعة انتهاء الوقت، مما يكشف عن مدى تستر مثل هذه الملتقيات على المجازر الإسرائيلية، والانحياز بالكامل للذين يرتكبونها.
وهذه ليست المرة الأولى التي يظهر فيها رئيس وزراء تركيا فروسيته ومعدنه الإسلامي الأصيل، فقد وقف كالجبل في مواجهة الحملات الإسرائيلية التي تعرض لها لأنه انتصر لضحايا المجازر في قطاع غزة، وأدان إسرائيل بأقوى الكلمات.
بيريس معروف بالكذب، وتزوير الحقائق، فقد ادعى أكثر من مرة أن إسرائيل لم تقتل الأطفال في القطاع، وقال إنها تقدم على عدوانها من أجل حماية أطفال إسرائيل، وعندما ووجه بالصور الموثقة لأطفال مزقت أجسادهم الصواريخ الإسرائيلية ادعى أن هؤلاء قتلوا بطريق الخطأ.
لا نعرف كيف استشهد هؤلاء بطريق الخطأ، فسماء غزة ليست مثل سماء لندن ملبدة بالغيوم، والطائرات الإسرائيلية كانت تحلق بحرية مطلقة، ورؤية واضحة، دون أي مضايقات أرضية، فالمقاومة الفلسطينية لا تملك، وللأسف الشديد، مضادات أرضية ولا صواريخ للتصدي للطائرات، أي أن احتمالات الخطأ معدومة كليًّا.
بيريس ركز في كلمته في دافوس على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها في مواجهة الصواريخ الفلسطينية، ولكنه تجاهل حقيقة ناصعة وهي أن المسألة ليست في حق إسرائيل في الدفاع عن النفس مثل أي شخص آخر، وإنما في ما إذا كانت تملك الحق في فعل ذلك بالاستخدام المفرط للقوة مثلما شاهدنا في قطاع غزة مؤخرًا.
وما يحز في النفس أن هذه الأكذوبة التي تبرر قتل الأطفال والنساء صدقها وكررها الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما، وكأنه لا توجد بدائل أخرى مثل البدائل السلمية، التي لم يتحدث أحد عن ضرورة اللجوء إليها لتجنب المجازر والتدمير الكامل لحياة مليون ونصف المليون فلسطيني من أبناء القطاع، وتشريد خمسين ألفًا منهم على الأقل، يعيشون حاليًا في العراء بسبب الجدل العقيم حول الجهة التي يجب أن تشرف على إعادة الإعمار.
السيد أردوغان قال ما لم يقله الزعماء والمسئولون العرب المشاركون بصفة دائمة في هذا المنتدى، لإظهار اعتدالهم وحضاريتهم في إجراء حوارات مع المسئولين الإسرائيليين، والجلوس معهم في لقاءات جانبية، ومجاملتهم في المناسبات الاجتماعية وحفلات الاستقبال والعشاء، وكأن هؤلاء أصدقاء يمثلون دولة شقيقة.
لا نعرف كم مسئولاً عربيًّا من المشاركين في منتدى دافوس صافح بيريس والوفد المرافق له، ولا نستغرب أن يكون السيد موسى الذي كان جالسًا إلى جانبه في الندوة نفسها قد فعل ذلك، وهو يدرك تمامًا، أي السيد موسى، أن الدماء الطاهرة لأطفال غزة التي سفكها جيش بيريس وطائراته ما زالت طرية لم تجف بعد.
مشكلتنا أن النظام الرسمي العربي ليس متواطئًا فقط، لا بل هو مشارك أيضًا في العدوان الإسرائيلي، ويتضح ذلك بجلاء من خلال سلوك مندوبيه وممثليه في المحافل الدولية، واستقبالاتهم الحارة للمبعوثين الأمريكيين، مثل جورج ميتشيل، دون أن يقدموا على الاحتجاج على تصريحاته وتصريحات رئيسه ورئيسته المنحازة بالكامل إلى المجازر الإسرائيلية.
فالسيدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية دشنت مهمة السناتور ميتشيل قبل يومين بالتأكيد على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، في أول مؤتمر صحفي تعقده، وقالت إن الصواريخ الفلسطينية على أرضها (أي إسرائيل)، لا يمكن أن تمر دون رد.
أما رئيسها أوباما فقد ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك عندما قال بالحرف الواحد: "إذا سقطت الصواريخ على مكان تنام فيه طفلتاي، فإنني سأفعل كل شيء من أجل إيقافها"، وكان يشير بذلك إلى أطفال إسرائيل، وليس إلى أطفال قطاع غزة الذين يذبحون بالصواريخ والقنابل الفسفورية الإسرائيلية التي تلقيها طائرات (إف 16) الأمريكية الصنع على مدارسهم التي احتموا بها ظنًّا أن عَلم الأمم المتحدة سيحميهم منها.
أوباما لم يقل كلمة واحدة عن المستوطنات وسرقة إسرائيل للأراضي والمياه الفلسطينية في الضفة الغربية، وهو صمت لا يتماشى مع تصريحاته النارية حول التزامه بقيام دولتين تعيشان جنبًا إلى جنب في أمن وسلام واستقرار.
أردوغان وليس القادة العرب، الذي بات يملك الشجاعة، وهو الحليف الأقوى لواشنطن، ويتصدى للتزويرين الأمريكي والإسرائيلي في كل المحافل الدولية دون استثناء، رغم أن هذه المواقف الشجاعة قد تكلفه وبلاده الشيء الكثير، مثل إغلاق الباب نهائيًّا أمام مساعيها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
فالرجل يتماهى مع شعبه ومشاعره، هذا الشعب الذي تظاهر بالملايين في شوارع أنقرة واستانبول، ويستند إلى تراث إسلامي عريق لا يخجل منه بل يتباهى به، وانعكس في قوله إنه واحد من أحفاد الإمبراطورية العثمانية.
شكرًا للسيد أردوغان، نقولها للمرة الألف، ومن قلب مفعم بالمرارة والإحباط من قيادات تدعي أنها عربية ومسلمة، تصمت على مجازر غزة تواطؤًا، وتغلق المعابر في وجه أبناء القطاع المحاصرين المجوّعين.
نقول أيضًا شكرًا لهؤلاء الناشطين والمحامين الذين يطاردون السفاحين الإسرائيليين الذين ارتكبوا المجازر في قطاع غزة، وخاصة مجزرة أسرة العثامين شمال القطاع، ومجزرة الشاطئ، ومجزرة اغتيال الشهيد صلاح شحادة وأفراد أسرته. فهؤلاء هم العرب والمسلمون الحقيقيون، والذين تجري في عروقهم دماء العزة والكرامة والعدالة، وهي قطعًا ليست من فصيلة دماء معظم الزعماء العرب.
----------
* القدس العربي 30/1/2009م
لم نفاجأ بانسحاب السيد رجب طيب أردوغان رئيس وزراء تركيا من ندوةٍ عُقدت في إطار فعاليات منتدى دافوس الاقتصادي بسبب عدم السماح له بالرد على مغالطات شمعون بيريس رئيس الكيان الصهيوني حول عدوانه الأخير على قطاع غزة، ولكننا فوجئنا ببقاء السيد عمرو موسى الأمين العام للجامعة العربية على المنصة نفسها التي يجلس عليها بيريس، ودون أن يبادر إلى التصدي له وفضح أكاذيبه.
السيد أردوغان لم يتحمَّل مرور سموم بيريس دون ردٍّ مُفحِمٍ، خاصةً أنه دافع عن عدوانٍ أدى إلى استشهاد أكثر من 1350 شخصًا؛ ثلثهم من الأطفال والنساء، وادَّعى أن الكيان الصهيوني حريص على السلام، وحمَّل حركة حماس وفصائل المقاومة الأخرى مسئولية ما حدث، ولكن المشرف على إدارة الندوة رفض إعطاءه الكلمة تحت ذريعة انتهاء الوقت، مما يكشف عن مدى تستر مثل هذه الملتقيات على المجازر الإسرائيلية، والانحياز بالكامل للذين يرتكبونها.
وهذه ليست المرة الأولى التي يظهر فيها رئيس وزراء تركيا فروسيته ومعدنه الإسلامي الأصيل، فقد وقف كالجبل في مواجهة الحملات الإسرائيلية التي تعرض لها لأنه انتصر لضحايا المجازر في قطاع غزة، وأدان إسرائيل بأقوى الكلمات.
بيريس معروف بالكذب، وتزوير الحقائق، فقد ادعى أكثر من مرة أن إسرائيل لم تقتل الأطفال في القطاع، وقال إنها تقدم على عدوانها من أجل حماية أطفال إسرائيل، وعندما ووجه بالصور الموثقة لأطفال مزقت أجسادهم الصواريخ الإسرائيلية ادعى أن هؤلاء قتلوا بطريق الخطأ.
لا نعرف كيف استشهد هؤلاء بطريق الخطأ، فسماء غزة ليست مثل سماء لندن ملبدة بالغيوم، والطائرات الإسرائيلية كانت تحلق بحرية مطلقة، ورؤية واضحة، دون أي مضايقات أرضية، فالمقاومة الفلسطينية لا تملك، وللأسف الشديد، مضادات أرضية ولا صواريخ للتصدي للطائرات، أي أن احتمالات الخطأ معدومة كليًّا.
بيريس ركز في كلمته في دافوس على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها في مواجهة الصواريخ الفلسطينية، ولكنه تجاهل حقيقة ناصعة وهي أن المسألة ليست في حق إسرائيل في الدفاع عن النفس مثل أي شخص آخر، وإنما في ما إذا كانت تملك الحق في فعل ذلك بالاستخدام المفرط للقوة مثلما شاهدنا في قطاع غزة مؤخرًا.
وما يحز في النفس أن هذه الأكذوبة التي تبرر قتل الأطفال والنساء صدقها وكررها الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما، وكأنه لا توجد بدائل أخرى مثل البدائل السلمية، التي لم يتحدث أحد عن ضرورة اللجوء إليها لتجنب المجازر والتدمير الكامل لحياة مليون ونصف المليون فلسطيني من أبناء القطاع، وتشريد خمسين ألفًا منهم على الأقل، يعيشون حاليًا في العراء بسبب الجدل العقيم حول الجهة التي يجب أن تشرف على إعادة الإعمار.
السيد أردوغان قال ما لم يقله الزعماء والمسئولون العرب المشاركون بصفة دائمة في هذا المنتدى، لإظهار اعتدالهم وحضاريتهم في إجراء حوارات مع المسئولين الإسرائيليين، والجلوس معهم في لقاءات جانبية، ومجاملتهم في المناسبات الاجتماعية وحفلات الاستقبال والعشاء، وكأن هؤلاء أصدقاء يمثلون دولة شقيقة.
لا نعرف كم مسئولاً عربيًّا من المشاركين في منتدى دافوس صافح بيريس والوفد المرافق له، ولا نستغرب أن يكون السيد موسى الذي كان جالسًا إلى جانبه في الندوة نفسها قد فعل ذلك، وهو يدرك تمامًا، أي السيد موسى، أن الدماء الطاهرة لأطفال غزة التي سفكها جيش بيريس وطائراته ما زالت طرية لم تجف بعد.
مشكلتنا أن النظام الرسمي العربي ليس متواطئًا فقط، لا بل هو مشارك أيضًا في العدوان الإسرائيلي، ويتضح ذلك بجلاء من خلال سلوك مندوبيه وممثليه في المحافل الدولية، واستقبالاتهم الحارة للمبعوثين الأمريكيين، مثل جورج ميتشيل، دون أن يقدموا على الاحتجاج على تصريحاته وتصريحات رئيسه ورئيسته المنحازة بالكامل إلى المجازر الإسرائيلية.
فالسيدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية دشنت مهمة السناتور ميتشيل قبل يومين بالتأكيد على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، في أول مؤتمر صحفي تعقده، وقالت إن الصواريخ الفلسطينية على أرضها (أي إسرائيل)، لا يمكن أن تمر دون رد.
أما رئيسها أوباما فقد ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك عندما قال بالحرف الواحد: "إذا سقطت الصواريخ على مكان تنام فيه طفلتاي، فإنني سأفعل كل شيء من أجل إيقافها"، وكان يشير بذلك إلى أطفال إسرائيل، وليس إلى أطفال قطاع غزة الذين يذبحون بالصواريخ والقنابل الفسفورية الإسرائيلية التي تلقيها طائرات (إف 16) الأمريكية الصنع على مدارسهم التي احتموا بها ظنًّا أن عَلم الأمم المتحدة سيحميهم منها.
أوباما لم يقل كلمة واحدة عن المستوطنات وسرقة إسرائيل للأراضي والمياه الفلسطينية في الضفة الغربية، وهو صمت لا يتماشى مع تصريحاته النارية حول التزامه بقيام دولتين تعيشان جنبًا إلى جنب في أمن وسلام واستقرار.
أردوغان وليس القادة العرب، الذي بات يملك الشجاعة، وهو الحليف الأقوى لواشنطن، ويتصدى للتزويرين الأمريكي والإسرائيلي في كل المحافل الدولية دون استثناء، رغم أن هذه المواقف الشجاعة قد تكلفه وبلاده الشيء الكثير، مثل إغلاق الباب نهائيًّا أمام مساعيها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
فالرجل يتماهى مع شعبه ومشاعره، هذا الشعب الذي تظاهر بالملايين في شوارع أنقرة واستانبول، ويستند إلى تراث إسلامي عريق لا يخجل منه بل يتباهى به، وانعكس في قوله إنه واحد من أحفاد الإمبراطورية العثمانية.
شكرًا للسيد أردوغان، نقولها للمرة الألف، ومن قلب مفعم بالمرارة والإحباط من قيادات تدعي أنها عربية ومسلمة، تصمت على مجازر غزة تواطؤًا، وتغلق المعابر في وجه أبناء القطاع المحاصرين المجوّعين.
نقول أيضًا شكرًا لهؤلاء الناشطين والمحامين الذين يطاردون السفاحين الإسرائيليين الذين ارتكبوا المجازر في قطاع غزة، وخاصة مجزرة أسرة العثامين شمال القطاع، ومجزرة الشاطئ، ومجزرة اغتيال الشهيد صلاح شحادة وأفراد أسرته. فهؤلاء هم العرب والمسلمون الحقيقيون، والذين تجري في عروقهم دماء العزة والكرامة والعدالة، وهي قطعًا ليست من فصيلة دماء معظم الزعماء العرب.
----------
* القدس العربي 30/1/2009م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق