رسالة من أ. د. محمد بديع- المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، أما بعد..
ويمكرون ويمكر الله..
بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام؛ لنشر الهدى والنور بين الناس، فشقَّ الأمر على رؤوس مكة، وأنكروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوةَ الحق، على الرغم من إقامة الحجة عليهم، فاستكبروا وعاندوا، وجمعوا مكرهم وكيدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه رضوان الله عليهم، فعذبوهم وقاطعوهم وآذوهم، ولكنهم لم يفلحوا في صدِّهم عن دعوة الحق, بل ازداد المؤمنون إيمانًا فوق إيمانهم، يقول تعالى: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (الأنفال: من الآية 30).
وهذا طريقنا، تأتي فيه الشدائد لتصنع الفرج، فهل تُقعدنا الصعاب عن مضاعفة العمل المستمر لنشر النور والخير، ليس فى بلادنا فقط بل في العالم كله؟!
فهذا العمل المتواصل هو دليل وحقيقة حبِّنا لله عز وجل واتباعنا للنبي صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (آل عمران: 31)، فأين نحن من ذلك؟! واليوم الذي يكون فيه المسلمون على هذا المستوى فإن الله يكون مولاهم، فكم أبطلَ الله مكرَ الماكرين، وردَّ كيدَهم في نحرهم، ودبَّر لهم ما لم يستطيعوا الفكاك منه ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ﴾ (غافر: 51).
فهل أدركنا هذه الحقيقة؟ والله تعالى يقول: ﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (آل عمران: من الآية 54)؛ أي أقوى المدبِّرين في الخفاء ليقابل مكرهم بالخذلان، رغم توفر كل أسباب نجاحه المادية, ويقول تعالى: ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾ (إبراهيم: 46)، فهذه هي المعاني التي أراد الصحابة الكرام أن يغرسوها في أبناء أمتنا.. يقول اِبْن عَبَّاس: "مَا كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَال"، ويقول الْحَسَن الْبَصْرِي بِأَنَّ هَذَا الَّذِي فَعَلُوهُ بِأَنْفُسِهِمْ مَا ضَرَّ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ الْجِبَال وَلا غَيْرهَا، وَإِنَّمَا عَادَ وَبَال ذَلِكَ عَلَيْهِمْ.
والقانون الإلهي لا يتبدل، والسنَّة الربانية ماضية، في قوله تعالى: ﴿لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ﴾ (فاطر: من الآية 43)، وتأمَّلوا ما ورد في تقرير من واشنطن بتاريخ 30/3/2008م: "أجريت دراسة على عيِّنة المقاتلين الأمريكان في حرب العراق، الذين يبلغ عددهم (700.000)، العينة هي (2500) مقاتل، وكانت النتائج: 40% منهم أصابتهم أمراض نفسية وعصبية، ومنهم ما وصل إلى أمراض عقلية وهيستيريا، وهنالك محاولات انتحار، فضلاً عن الهروب من العمل.. ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾ (الحشر: من الآية 2)، وحاق المكر السيِّئ بأهله.
المؤامرة الصهيونية والعالم الصامت
ومن مكر اليوم الظاهر للعيان مؤامرة تُرصد لها الأموال الطائلة، تنفَّذ عن طريق منظمات وجماعات يهودية منذ عام 1967م وحتى الآن، تهدف إلى هدم المسجد الأقصى لتفريغ القضية من محتواها وجوهرها، وتمَّ ذلك عن طريق أعمال حفائر، مرَّت بمراحل باءت كلها بالفشل، وما زالت المحاولات مستمرةً، وستبوءُ كلها بالفشل بإذن الله ما دام هناك مرابطون فيه وعلى أكنافه، وما دام هناك رجال مؤمنون ونساء مؤمنات، يضحُّون ويبذلون وينصرون الله ورسوله، ويدافعون عن مقدساتهم في كل بقاع الأرض.
بدأت المؤامرة في أعقاب احتلالهم للقسم الثاني من القدس في أواخر عام 67، وتمَّ هدم حي المغاربة نهائيًّا، وبدأت الحفائر منذ عام 1968م، واستكملوها عام 1969م، وفي نفس العام تمَّ حرق المسجد الأقصى، وأخيرًا يعلن نتنياهو- من نفس القاعة التي أعلن فيها بن جوريون إعلان دولتهم المزعومة- ضمَّ الحرم الإبراهيمي لآثارهم، تحت مباركة من الصهاينة، الذين قالوا: "القرار هو إنجاز هام وتاريخي"، ويرصدون له 100 مليون دولار؛ بهدف ربط أجيالهم القادمة بدولتهم الغاصبة!.
وفي الوقت الذي تزور فيه وزيرة خارجية أمريكا دولنا العربية، لشحنها ضد إيران، يخيِّم الصمت الرهيب على الأقصى، بينما الصهاينة يغتالون محمود المبحوح في عمق وطننا العربي، وعلى مرأى ومسمع وصمت مخزٍ من العالم كله، ويقمعون أية مبادرة فلسطينية للتعبير عن غضبهم بأرضهم فلسطين، مع استمرار الحصار القاتل على أهلنا في غزة، فأين الصوت العربي المدافع عن حقوق الأمة، والواجب أن تخصص له المؤتمرات، مثل اهتمام أمريكا بإقامة مؤتمرات حول علاقتها بالشرق الأوسط، أو عن مستقبل الإسلام السياسي، أم رضينا أن نكون في عداد المتفرجين؟!
واجباتنا نحو الأمل القادم
سنة الله تعالى في التدافع بين الناس أن تكون الأيام سجالاً بين مكر الماكرين وعمل المؤمنين، وكلما وفَّى المؤمنون بعهدهم مع الله ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ (البقرة: من الآية40) وشروط نصر الله، منحهم الله نصره ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ (محمد: من الآية 7) وأيَّدهم بعونه ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون﴾ (التوبة: 33)، وهذا يحتاج منا أن نبد أولاً بإيمان النفوس: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينْ﴾ (آل عمران: 139) ثم الثبات على إسلامنا والاستقامة على النهج القويم، الذي نؤمن به ونسعى إلى تحقيقه: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ﴾ (هود: من الآية 112)، ثم عبْر عمل متواصل وخالص لوجه الله تعالى، مهما كانت التضحيات والمحن التي تواجهنا.. ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِه﴾ (الحج: من الآية 78).
ولذلك فمِن أولى واجباتنا إزالة حاجز الخوف ممن يمكرون بنا، بعد أن ظهر للعالم أجمع إصرارهم الدائم على الفساد، ومحاربتهم المتواصلة للصلاح وأهل الإصلاح، وبعد أن قضى الله عليهم باليأس من هذا الدين منذ خمسة عشر قرنًا ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ﴾ (المائدة: من الآية 3)، فماذا بعد وضوح وعد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أمام أبناء الأمة إلا الاتباع لمنهج الإسلام، في صد المشروع الأمريكي الصهيوني، الذي يرمي إلى تركيعنا لإرادتهم، وفرض هيمنتهم، وامتصاص ثرواتنا، وإفساد أبنائنا، والعصف ببيوتنا وهم ينفقون في سبيل ذلك ما لا يُحصى من الإمكانيات المادية والبشرية، ولكنَّ الله تعالى يبشِّرنا بأن كل ذلك المكر سيبور، وأن وعد الله هو الحق: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُون﴾ (الأنفال: 36)؟!
ولقد رأينا ثمار هذه الدعوة المباركة- رغم كيد الكائدين وحصار الطغاة الظالمين- تتجلَّى في هذا الوعي العميق، والحماس المشتعل في نفوس المسلمين، خاصةً في أوساط الشباب؛ لإحياء هذه الأمة من جديد، تاركين وراءهم كل ملذَّات الدنيا، ومتحرِّرين من معوقاتها وقيودها؛ تحقيقًا لأمر الله تعالى: ﴿أُدْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينْ﴾ (المائدة: من الآية 23)، فواسع الأمل الذي تُبني به الأمم معقود بيد الشعوب التي تمتلك الإرادة وتستعد للتضحية، فإن بإمكانها أن تقهر هذا المكر، وتغلب هذا الكيد، كما يقف الشعب التركي اليوم وراء قيادته في التصدي لحصار المكائد والمؤامرات.
أخيرًا.. ولن يخلف الله وعده
يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُو يَبُورُ﴾ (فاطر: من الآية 10)، فمهما حاولوا من مكر، فقد ظهر زيفهم لأولي البصائر والنهى، يقول الإمام البنا: "فترى كيف يطغى الباطل في صولته، ويعتزُّ بقوته، ويطمئنُّ إلى جبروته، ويغفل عن عين الحق التي ترقبه، حتى إذا فرح بما أوتي أخذه الله أخذ عزيز مقتدر.. أبت إرادة الله إلا أن تنتصر للمظلومين، وتأخذ بناصية المهضومين المستضعفين، فإذا الباطل منهارٌ من أساسه، وإذا الحق قائمُ البنيان، متينُ الأركان، وإذا أهله هم الغالبون".
ويقول تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ (يوسف: 110), جاءت هذه الآيات لتطمئن المؤمنين أن ظروف الاستضعاف ومواجهة أهل البغي والعدوان والإفساد؛ لا تؤثر في إيمانهم، ولا تقدح في صدقهم، كقوله تعالى: ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)﴾ (إبراهيم).
يقول الإمام البنا: "وإننا نرقب تأييد الله ونصرته، ومن نصره الله فلا غالب له.. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِيْنَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِيْنَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ﴾ (محمد: 11)، فقوة دعوتنا وحاجة الناس إليها ونَبَالة مقصدنا وتأييد الله إيانا؛ هي عوامل النجاح التي لا تثبت أمامها عقبة، ولا يقف في طريقها عائق.. ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 21).
والله أكبر ولله الحمد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق